بقلمكم

مستقبل فلسطين ما بعد التحرير!!

كتب الدكتور بلال عقل الصنديد في موقع صدى الإقليم:

روى لي أحد الفرنسيين أنه في ثمانينيات القرن الماضي، وفي عزّ انشغال العالم -تعاطفاً أو تآمراً- بالقضية الفلسطينية نتيجة عدة عوامل وأحداث من أبرزها : تصاعد وتيرة “العمليات الفدائية”، صعود نجم “الختيار” ياسر عرفات، تكريس دور منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وانتشار الأخبار والصور عن مجزرة صبرا وشاتيلا التي ذهب ضحيتها مئات الفلسطينيين بتحريض وإشراف اسرائيلي مباشر… نجت قوى اليسار الفرنسي -بعد جهود مضنية- بجمع كل الفصائل الفلسطينية على اختلاف انتماءاتها العقائدية والسياسية في ندوة جماهيرية تستهدف التعريف بالـقضية الإنسانية الأبرز، ولفت الأنظار الى حقوق أصحابها.

وبعد فترة وجيزة على انطلاق اللقاء تعالت الأصوات وتطايرت العبوات وساد الهرج والمرج في القاعة! وقبل أن أسأل محدّثي عن السبب، سبقني ببسمة وحسرة قائلاً “إنه الخلاف على مستقبل فلسطين ما بعد التحرير… يا صديقي!”.

استذكرت هذه الحادثة في عزّ الحرب الغاشمة على غزة والعدوان على لبنان، وما يدور في كواليس العلاقات الدولية من متاجرة غير شريفة ومزايدة غير نظيفة على حساب دماء آلاف الشهداء والجرحى والخسائر المليارية في الاقتصاد والممتلكات، وكل ذلك على وقع أحلام تراودنا في كل حين بانهيار الكيان الصهيوني والأمل بالرفع القريب لشارة النصر!

وفي وطيس هذه المعمعة متناقضة المصالح والمشاعر، بدأت الأسئلة المستعصية تنهال على رأسي كالمطر -كي لا أقول بلغة الحرب كصليات من الصواريخ- فمتى سيكون النصر المبين على العدو الصهيوني؟ ولمن يا ترى سينسب فضله؟ ومن سيستحق أن يستلم الحكم في فلسطين الحرّة وينجح فيه؟ وكم عدد الدول والفصائل والقادة الذين سيتاجرون بالتحرير كما تاجر البعض منهم بالقضية على مدى عقود!؟

الإجابات على كل ما سبق واضحة وضوح حق الفلسطينيين بأرضهم ومعاناة اللبنانيين مع المتاجرين بهم؛ ملخصها البسمة البائسة والحسرة اليائسة التي علت ملامح محدّثي الفرنسي، وواقعها أن تحقيق النصر الناجز يبدو -وفق المعايير البشرية لا المقدرة الإلهية- بعيد المنال عنّا، وذلك نتيجة تقاعسنا وبفعل تشتتنا وخلاصة تآمرنا، وكانعكاس طبيعي لعدم استعدادنا وانشغالنا في دوامة الهموم العامة والمصالح الخاصة!

الخلافات العقائدية والسياسية بين العرب، شعوباً ودولاً، تباين أساليب النضال بين الفصائل والمنظمات الفلسطينية، المتاجرة بالقضية الأم، تعارض المصالح المحليّة والدولية، تدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، المقاربات المختلفة للقناعات والمسائل الدينية… كلها أسباب كافية لإضعاف الموقف وتشتيت الجهود، والكارثة في كل ذلك أن وحدة الصف لا تتحقق بين عشية وضحاها، بل تحتاج إلى زمن طويل، وتواضع مسؤول، وجهود مضنية، وتخلّ حقيقي عن كل ما يفرّق من أجل هدف واحد لن ينال شرف بلوغه المتخاصمون.

أثبت التاريخ أن الالتزام بعقيدة واحدة تحوز على شبه اجماع شعبي ووطني هو مطلب رئيسي لسلوك درب التحرّر وبلوغ التحرير الحقيقي والناجز ؛ وكم يتجلى في هذا الشأن الفارق بين تشتت العرب والفلسطينيين في أزقة البحث عن مصالح شخصية وأمجاد ذاتية، وبين توحّد الصهاينة على حق موهوم وتاريخ مخادع وقضية مُختَلَقة ترسّخت في وجدان كل مستقدم من آفاق الشتات بهدف توطينه في أرض نسبت زوراً لأسلافه!

فهل يتفق اللبنانيون والسوريون على لبنانية مزارع شبعا؟ وهل ما زال العرب والفلسطينيون متمسكين بالقدس الشريف عاصمة لفلسطين الحرّة؟ وما مصير حق العودة إلى الأراضي المحتلة عام 1948؟ وما هي خطة فصائل المقاومة في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي ستوضع على الطاولة بمجرد تحقق التحرير المأمول، جزئياً أو كلياً؟ وما هو الموقف من تحديات الاندماج العالمي مع دول وشعوب اعتادت على التعامل مع كيان صهيوني روّج زوراً ديمقراطيته المزعومة؟

قد تبدو هذه الأسئلة الكبيرة، سابقة لأوانها وفيها كثير من الشطط أو المبالغة، وقد تستدعي بسمة باهتة وساخرة تشبه بسمة اليساري الفرنسي، الا أنها في جميع الأحوال تبقى أسئلة مشروعة تكشف عن مدى هواننا وتهاوننا في التخطيط والاستعداد وفشلنا بالتجهيز لكل الاحتمالات، وحماستنا غير المحسوبة في كثير من المواقف والمحطات المصيرية.

وما الخلاف حول توصيف أحداث السابع من اكتوبر، إن كانت بطولة أم مغامرة، الا إشارة الى ذلك! وما رفض كثير من اللبنانيين والعرب لحرب “الإسناد” التي خاضها حزب الله في جنوب لبنان الا شهادة أن الموقف ليس موحداً اتجاه الواقع المشهود، فما بالك بالاختلاف حول المستقبل المجهول!؟

بعيداً عن أي تحبيط أو تثبيط، واحتراماً لبسالة المقاومين الشرفاء الذين قاتلوا من “النقطة صفر” باللحم الحيّ، واجلالاً لتضحيات المدنيين الصابرين، لا بد من صيحة ضمير تشير بصدق الى مواطن الخلل في الاستعداد وأهوال التردد في الإقدام.

وبصرف النظر عن نتائج الحرب وكل المتاجرة الحالية والمرتقبة بصمود أهل غزّة ولبنان، عسى أن تتعلم الأجيال الفلسطينية والعربية من نكبات الماضي وخطايانا المتكرّرة، فتدرك أهمية التماسك والاتفاق على رؤية موحدة والالتفاف حول قيادات صادقة تحسن الإعداد والتخطيط، وتدرك أهمية حشد التعاطف الدولي والاقليمي بعيداً عن أي ارتباط خارجي لا يرى فينا ومن خلالنا الا تحقيقاً لمصالحه الذاتية.

ولنتعلم من عدونا كيف استطاع بناء كيانه المزعوم عبر مسار متدرج بدأ مع ظهور الحركة الصهيونية التي عملت على حشد الدعم الدولي لليهود، ومن ثم تصويب الهدف نحو إقامة وطن قومي لهم، الأمر الذي ترافق مع حسن استخدام الطاقات الفكرية والموارد المالية للاستحصال على “وعد بلفور”، ومن ثم تنفيذه من خلال تسيير حملات هجرة منظّمة الى أرض الميعاد، مما استتبع بخطط استيطان مدروسة وورشة بناء مجتمعي واقتصادي وتنموي وسياسي وعسكري أدت نتائجاً ربما أفضل مما كان يتوقعه الصهاينة أنفسهم!

Next Article:

0 %