بقلمكم

إياك أعني واسمعي يا جارة.. رسالة مفتوحة الى العماد “ميشال عون” الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية

كتب الدكتور بلال الصنديد في موقع “صدى الإقليم”

كتبت النسخة الأصلية من هذه الرسالة قبيل ساعات من انتخاب العماد “ميشال عون” رئيساً للجمهورية اللبنانية في العام 2016 ؛ ونظراً لتعذر نشرها بتوقيت مناسب، وعلى أثر نيل حضرة العماد لقب الفخامة، فضّلت التريث ست سنوات لإعادة النشر وذلك من منطلق التزامي بمقتضيات الحصانة الدستورية والمقام المعنوي لرئيس الدولة، رمز وحدة الوطن والساهر على احترام الدستور والمحافظ على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه.

وبعد أن مرّ عهد الرئيس العماد موسوماً بالإخفاق باعتراف الرئيس قبل المؤيدين والمعارضين ؛ وبغض النظر عن الأسباب التي يتقاذفها صاحب الفخامة مع مكونات الطبقة السياسية باستثناء حزب الله ؛ وتبعاً لما شهدته ولايته من مناكفات وكيدية كان فريقه السياسي طرفاً فيها ؛ وبعد أن تعايش معظم اللبنانيين – بحالة نكران مَرَضِية- مع واقع “الفراغ” في المؤسسات الدستورية ؛ ومع الانهيار الحاد للقيمة الشرائية لليرة اللبنانية والأزمة الاقتصادية والمالية غير المسبوقة ؛ وعلى أثر التصويب المتعمّد على انتفاضة “17 تشرين” لما أحدثته من تغيير ملموس في المزاج الانتخابي وتهشيم ملحوظ “لقدسية” الزعيم ورئيس الحزب أو التيار… صار الوقت لإعادة نشر الأفكار الرئيسية التي تضمنتها رسالتي المفتوحة على قاعدة “إياك أعني واسمعي يا جارة” مخاطباً من خلالها كل طامح لشغل مقعد الرئاسة وبخاصة أولئك الذين يشاطرون “بيّ الكلّ” نفس القناعات ويتمثّلون بأدائه كإسم مؤثر في تاريخ لبنان الحديث.

فخامة العماد المتمرّد..

أخاطبك اليوم مقرّاً -دون فضل أو منّة- بزعامتك لشريحة واسعة من اللبنانيين الذين احترمهم لأقصى درجات الاحترام الوطني والأخلاقي، ومقتنعاً بنفس الوقت بأن أبرز أسباب الإلتزام “بالعونية” السياسية تستند الى قناعة “العونيين” بثلاثية واضحة هي : شخصيتك، تاريخك، وطروحاتك ؛ وهي نفس الثلاثية التي تشكل لمعارضيك منطلقاً للنقد ولخصومك مبرراً للرفض.

فقد يرى المناصرون في شخصيتك وطباعك صلابة وثبات بينما يرى فيها الخصوم عناداً غير مبرر وحِدّة مستفزّة، أما اندفاعك الذي يسوّقه المؤيدون على أنه جرأة وشجاعة يعتبره الكثيرون مغامرة ونزعة للسيطرة، بقي أن المناورة التي منحتك مكاسب سياسية كثيرة وكبيرة فهي بالنسبة لجزء كبير من اللبنانيين نقل للسلاح من كتف الى آخر وتنكّر للقناعات التي بنيت عليها أمجادك في عيون محازبيك.

وبصرف النظر عن قناعتي الخاصة بهذه الثلاثية الجدلية، خاطبتك كمرشح رئاسي ملتزماً بحسن الظن ومفترضاً أن بعد تربّعك على الكرسي -الذي فعلت ما فعلت من أجل الوصول اليه- ستحرص على جعل نهجك اصلاحياً بلا محاباة، وطنياً بلا محاصصة ؛ وأنك ستجاهد من أجل تحقيق تنمية شاملة لا تمييز فيها ولا تعرف الفشل، وأنك ستتنكر تلقائياً لأي خطاب عنيف أو مستفز، وستقف بالمرصاد لأي نزعة طائفية تنعت معارضيك بـ”الداعشية السياسية” أو تتهمهم بالفساد والعمالة، وستتنكر لكل موروثات العائلية السياسية وما تتضمنه من توريث سياسي واتباع حرفي لمقولة “كرمال عين تكرم أو تخرب كل العيون”.

فخامة الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية..

عندما كتبت الرسالة الأصلية بِنِيّة نشرها، لم يشغلني لحظة موقف أي من مخاصميك، كما لم أخش معها من أي دسيسة أو قطيعة من مناصريك، ولم أعر بالاً لأي تصفيق أو معاتبة جارحة. فقد كنت متيقناً -وربما آملاً- أن حرية الرأي والقول ستبقى في لبنان سمة كل العهود، وأن المواقف الصادقة لا تجابه بالخصام أو بالإنتقام، وبخاصه أن كلامي -كما كلام معظم اللبنانيين- يُقال دون أن يسمع، فلا يخشى مؤيد مما أقول ولا يراهن معارض على ما عبرّت عنه.

كنت أعرف عند صياغة رسالتي بعفوية وطنية وبالتزام أخلاقي أن تعبيري ومقاصده لن يغيّروا في الواقع شيئاً، فـالمخاطب كان ومازال وسيبقى “ميشال عون” بصفاته الشخصية وطروحاته السياسية، وهو -مهما فعل أم لم يفعل- سيبقى، عن حق أو عن تجنّ، خصماً عنيداً لمن لا يستسيغ أسلوبه ولا يتفق مع طرحه، وهو في نفس الوقت سيبقى موضع اعتزاز لمحازبيه إما قناعة وإما مجرد نكاية بالآخرين.

فخامة “بيّ الكل”..

افترضت في النسخة الأولى من الرسالة أن عهدك -وبصفتك القائد السابق للجيش الوطني- لن يميّز لبناني عن آخر، ولن يقرّب رئيس حزب أو تيار أكثر من غيره، ولن يحرم أي ناجح في امتحانات مجلس الخدمة المدنية من أجل توازن طائفي ليس له أي مبرر دستوري ولا سند قانوني. وقد توسّمت خيراً في أن الفساد لن يصبح إبراؤه مستحيلاً، وأن مقتضيات التحالف وموجبات المصالح لن تتناقض مع ركائز الخطاب السيادي ونهج الاصلاح والتغيير الذي أسس لشعبيتك منذ ثمانينيات القرن ماضي، وأن الإعلام الموالي سيكون موضوعياً، والمعارض منه لن يجد ممسكاً على أدائك، وأن الإعلاميين سينعمون أكثر بهدوء أعصاب فخامتك، وستبهرهم عقلانية موظفي القصر وحيادية مستشاريك.

وبعد متابعتي لمجريات جلسة إنتخابك -حضرة العماد- تيقنت من شكوكي التي حاولت استبعادها وتجاهلها ؛ فالمكتوب يقرأ من نصيحة “حليف الحليف” الرئيس “نبيه برّي” الذي تمنى عليك الإستعداد “للجهاد الأكبر” بعد أن فزت واستفزيت بانتخابك رئيساً، فربحت معركة “الجهاد الأصغر”!

لا شك في أن مستقبل أي عهد لا يكتبه فقط تاريخ الشخص الذي يشغل كرسي الرئاسة وأداؤه المتوقّع وطباعه الواضحة، بل تبدأ ارهاصات نجاحه أو فشله في الفترة التي تسبق جلسة الانتخاب وتتجلّى في مجريات انعقادها.

الواقع أن دلالات إفشال الانتخابات الرئاسية لسنتين ونصف وما رافقها من مناوشات سياسية اقل ما يقال عنها مصلحية لا وطنية، وما جرى اثناء جلسة انتخابك -حضرة العماد- لم تكن مبشّرة أن عهدك كمرشح “قويّ” سيكون قويّاً أو جامعاً أو وطنياً… فكل “الزكزكات” التي أعيد بسببها الاقتراع أكثر من مرة، والتي اقترن بسببها لقب الجنرال بإسم مغنّية استعراضية -عليها ما عليها في الأداء والقيمة الفنّية- وكل ما تبع ذلك من مظاهر لافتة عند اعلان النتيجة وقَسَم اليمين الدستورية وما تلاه من نكد سياسي متبادل، أكد لي ظنوني بأن الوطن لن يكون بخير وأن المئوية الأولى لإعلان “لبنان الكبير” لن تمرّ بسلام على الكيان اللبناني.

فخامة الجنرال..

لم أظن عند توجّهي اليك برسالة عفوية من مواطن عادي الى رئيس “غير عادي” أن ولايتك ستكون بلا حكومة بنسبة تقارب نصف عمرها الدستوري، وأن “شعب لبنان العظيم” سيصبح في عهدك شعباً فقيراً يفتقد حتى لجواز سفر يمكّنه من تحقيق أمله بالفرار من “جهنم” التي حذّرت منها، وأُلصقت -ربما تحاملاً أو مبالغة- بعهدك. كما لم أعتقد لوهلة أن الشباب المثقف والمهاجر قسراً سيقتنع بسهولة بتوضيحات مكتبك الإعلامي لتصريحك الشهيرة “يلّي مش عاجبو يفلّ”، في حين أن ولايتك كرست القطيعة مع كثير من الأشقاء والأصدقاء!

لم أتخيل أن يبدأ عهدك بصفقات وتفاهمات سرعان ما يتم الانقلاب عليها، وأن يستمر هذا العهد على  شعار “ما خلّونا”، ومن ثم ينتهي بالخشية على الكيان اللبناني وبـ”صفر ساعات” من الكهرباء وبسدود غير صالحة للإستخدام بعد أن تمسّك فريقك السياسي بوزارة الطاقة لأكثر من عقد من الزمن.

لم أتوقع أن تقتصر “انجازات” عهدك على تعديل قانون الانتخاب، اقرار قانون الموازنة لأول مرة منذ العام 2005، اطلاق دورة الترخيص الأولى للتنقيب عن النفط والغاز، تغطيتك لعملية “فجر الجرود” التي قام بها الجيش الوطني لدواع داخلية وخارجية، اطلاق التدقيق الجنائي المنقوص وغير المنجز، محاولة اقصاء حاكم مصرف لبنان بعد فترة وجيزة على توقيعكم مرسوم التجديد لولايته، وانتهاء بترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيون الذي فرضته التطورات العالمية والاقليمية. وبصرف النظر اذا ما شكّلت هذه “الانجازات” مادة للتجاذب السياسي والتكسّب الحزبي والمقايضة الخارجية والترويج الإعلامي، فإن اللبنانيين كانوا ينتظرون من فخامتك تنفيذ الكثير مما وعدت به عند ترشحك كـ”رئيس قوي”، وفي تضمنّه خطاب القسم. ولا عذر “للقائد القوي” الذي أنهى عهده بخطاب اقرار بالفشل أن يرمي بمسؤوليته على غيره محاولاً اقناعنا بأنه الآن سيتفرغ -بعد أن فقد السلطة- لمحاربة المعطّلين ومكافحة الفاسدين ومعارضة الفاشلين!

لم انتظر، يا فخامة الرئيس، أن تسمح يوماً بأن يكون التكريم بالأوسمة التي لا ينازع أحد في صلاحيتك بتوزيعها على المستحقين أو غير المستحقين، مادة يطالك منها كل التشكيك أو الاستخفاف أو الاستفهام. كما لم أظنّ ولن أقتنع بأن المواكب المحشود لها التي رافقتك من “قصر الشعب” الى منزلك الفخم والحديث في “المطيلب/الرابية” ستغيّر من نظرة اللبنانيين -مؤيدين ومعارضين- الى شخص فخامتك، أو أنها ستبدّل تفصيلاً واحداً من صورة عهدك، أو أنها ستثبت شعبيتك التي ظهر حجمها الفعلي واضحاً في نسب وأرقام الانتخابات النيابية الأخيرة!

فخامة الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية، العماد “ميشال عون”..

لقد حاولت في اطلالاتك التلفزيونية الأخيرة أن تعيد الى أذهاننا صورة “جنرال الرابية” زعيم “التيار الوطني الحر” والمدافع الشرس عن صهره المحنك والسياسي الطامح والشاب الديناميكي، وقد نجحت بذلك. وبمناورة سياسية غير مفهومة ولا مدروسة حاولت في الرمق الأخير من عهدك أن تقنع الجميع بجدوى ودستورية توقيعك لمرسوم اعتبار الحكومة المستقيلة “مستقيلة”! فنجحت مرة أخرى بأن تعيد الى الذاكرة الجماعية للبنانيين كل الملابسات الدستورية التي أحاطت شغلك لقصر بعبدا كرئيس حكومة مؤقتة مع ما رافق هذه الحقبة ونتج عنها من انقسامات ودموية في العام ١٩٨٨ وما بعده.

لقد سبق وأن خاطبتنا –فخامتك- بالقول أنك “لن تسلّم صلاحياتك لفراغ”، وقد عاش عهدك بين فراغين، واحد كانت لطموحاتك حصة “الأسد” في تسبيبه وآخر كان للمقربين منك مصلحة أو أهداف في الوصول اليه.

ومن حيث أنك توجهت الينا في بداية عهدك بالوعد أنك “ستسلّم الرئيس المقبل وطناً أفضل بكثير مما هو عليه”، ها نحن ننتظر خَلَفك -إذا ما تم انتخابه بسلاسة وسرعة- توّاقين لرأيه بما تفضّلت به، ومراهنين على وطنيته ونهجه وعلى صدق تفانيه لإنتشال لبنان مما ألصقه القدر بعهدك من انهيارات وأزمات وانفجارات كبرى وغير مسبوقة.

Next Article:

0 %