الدكتور بلال الصنديد – خاص صدى الإقليم
يشكّل التراث الفني اللبناني جزءاً أصيلاً من الهوية الثقافية للمجتمع اللبناني، حيث استقى عمالقة الفن اللبناني أرشيفهم الغنائي والتراثي من جذور ثقافية عميقة تمتد لمئات السنين.
يرتبط هذا التراث الفني بيوميات الحياة في القرى الجبلية والمدن الساحلية مما جعله يتأرجح بين ايقاعين متناقضين : واحد سلس وهادئ وآخر قاس وحاد ؛ أما الأول فيعزى للطمأنينة والهدوء والرقة الوجدانية المرتبطة بالطبيعة الخضراء والحقول المزهرة والمياه الصافية النقية، وآخر صاخب بالإيقاع ومشحون بالألفاظ والمواقف الشعرية والمسرحية التي تعبّر عن الشدّة والغضب وتعكس الحزن والشجن والوطنية، نتيجة الأحوال الصعبة والظروف القاسية التي عايشها اللبنانيون مع قساوة الصخر ووعر الطبيعة، من جهة، ومع تعاقب الاحتلالات وتراكم الأزمات، من جهة أخرى.
بفضل تنوعه وغناه، أضاف التراث الفني اللبناني تأثيراً كبيراً على فنون الدول المحيطة، وقد أثرت ألحانه ومواويله ليس فقط في وجدان الأجيال المتقدمة سناً بل في قلوب وعقول معظم الشباب العربي المعاصر، حتى امتزج التراث الفني التقليدي بالفنون الحديثة لتصبح جزءًا من ذاكرة الأجيال حتى تسعينيات القرن الماضي.
ومع مطلع الألفية الحالية، بات التراث الفني اللبناني عرضة لكثير من التحديات الناتجة عن تعاظم تأثير الثقافة الغربية على الجيل الجديد وتراجع اهتمام الشباب بالتراث الشعبي والموروث الفني، ناهيك عن اتجاه الذائقة الجماعية نحو الألحان والأفكار والفنون ذات الايقاع السريع رغم افتقار مخرجاتها إلى العمق في الطرح والاتزان في الكلمة. من ناحية أخرى ونتيجة لعدة ظروف وتداخلات سياسية واقتصادية واجتماعية، تأثرت الذائقة الفنية اللبنانية بأعمال وأغان دخلت عليه من المجتمعات المحيطة، رغم ابتعاد ألفاظها وايقاعها وألحانها عمّا اعتادت عليه الأذن اللبنانية.
وهكذا تم التخلّي تدريجياً، في الأفراح والمهرجانات، عن الألوان الفنية اللبنانية الأصيلة، تاركة المكان لسيطرة الإيقاعات السريعة وهيمنة الأنماط المستوردة، من البعيد والقريب، مما شكّل تهديداً واضحاً للهوية الثقافية اللبنانية وأدّى إلى تلاشي الذاكرة الجماعية التي حافظت لفترات طويلة على هذا التراث، حتى بلغ بنا الأمر لافتقاد “الدلعونا” التقليدية في حفلاتنا ومناسباتنا الاجتماعية!
لعّلها مناسبة بأن نستذكر -على قاعدة التعريف بالمفترض أنه معروف- ببعض أنماط التراث الفني الشعبي اللبناني، ونبدأ بـ“المْعنّى” الذي يعتبر من أهم ألوان الزجل والشعر المنبري، وهو يشكل ساحة تنافسية يستعرض فيها الشعراء مواهبهم وقدرتهم على استثارة الحماس لدى الجمهور، الأمر الذي تزيد حدّته عند تمتع الشاعر “القوّال” بصوت عذب وبراعة في الارتجال!
من ناحية اخرى تجسد مواويل”الميجانا“مشاعر الحنين والشجن القروي الذي يرتبط بأصوات الأرض والطبيعة، ويقال إن اسمها يعود إلى الآرامية أو السريانية، في حين نقل عن الأديب القروي الشهير مارون عبّود أن أصل الكلمة منحوت من “يا ما جانا” بمعنى يا هول ما جاءنا من الأقدار! تلامس مواويل الميجانا مجموعة مشاعر مختلطة تتأرجح بين الفرح والحزن في آن واحد، وهي تتكون من رباعيات جناسية ينتهي بيتها الأخير لزاماً برويّ مكوّن من ألف ونون، مثال : “يا ميجانا ويا ميجانا، زهر البنفسج يا ربيع بلادنا، لمّا يا حلوة خيالك ببالي خطر، عهد الهوى والحب ع بالي خطر، ويا بلادنا لو دق ع بابك خطر، بنسيّجك بزنودنا ورواحنا“.
أما “العتابا”، فهي الأسلوب الأمثل للتعبير عن الحزن والفراق والعتب، حيث يعدّ التغنّي بهذا اللون مرآة صادقة للوجدان المتيّم بالحب أو المنشغل بالهموم الوطنية، اذ تعتمد العتابا على بناء شعري من بيتين تنتهي الأشطر الثلاثة الأولى فيها بقافية متشابهة، فيما ينتهي البيت الرابع بحرف “الباء” الساكنة التي يسبقها حرف الألف أو فتحة : كعِتَاب أو عَتب، عِنّاب أو عنب…الخ. وتجدر الإشارة الى بدء أبيات العتابا عادةً بتكرار عبارة “أوف” التي تمهّد لمشاعر الشجن العميق، مما يجعلها أداة فعّالة لملامسة المشاعر وتجسيد التجارب المريرة.
ننتقل الى “الروزانا“، وهي لون فني تراثي معروف في بلاد الشام عامة، يرتبط بالشجن والألم العاطفي والمعاناة، ويُقال انه يعبر عن قصة مغترب عاد ليجد حبيبته قد اختارت الارتباط بغيره، في حين يربط البعض كلمة “روزانا” بإسم سفينة ايطالية كانت شعوب المنطقة موعودة برسوها في مرفأ بيروت حاملة الطحين والمؤنة للشعب الذي كان يعاني من مجاعة شديدة في بدايات الحرب العالمية الأولى! وقد اشتهر على حنجرة السيدة فيروز بعض ابيات الروزانا التي أنشدت فيها “عالروزانا ع الروزانا، كل الهنا فيها، شو عملت الروزانا، الله يجازيها… يا رايحين ع حلب، حبي معاكم راح، يا محملين العنب، تحت العنب تفاح، كل مين حبيبه معو، وأنا حبيبي راح… يا ربي نسمة هوا، يجي الحلو فيها”.
أما “بو الزلف”، فهو هو أسلوب شدو بسيط يعتمد على كلمات مباشرة تعكس الإعجاب والجمال، وتعدّ عبارة “هيهات يا بو الزلف“ مقدمة شائعة في هذا النوع الغنائي الذي ظهر على ما يبدو في بغداد وانتقل إلى لبنان، حيث أضفى عليه الشعراء المحليون طابعاً احتفائياً يعكس مشاعر الحياة والحيوية لدى المجتمع، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من المهرجانات والاحتفالات الشعبية.
وتبقى “الدلعونا” واحدة من أبرز وأشهر ألوان الفن الشعبي اللبناني، وهي تعبر عن الحب وتفاصيل الحياة اليومية بأسلوب حماسي ومحبّب، وتتمثل في أبيات قصيرة قريبة إلى الأهازيج الريفية التي يسهل تردادها ؛ وقد قام كثير من المطربين والمسرحيين –وعلى رأسهم الأخوين الرحباني- بنقل هذا اللون إلى الساحات الفنية العربية، مما جعل الدلعونا جزءًا من التراث الفني الحي الذي ارتبط بشكل تلقائي وطبيعي بالدبكة اللبنانية، التي هي رقصة فولكلورية تعبّر عن الفرح والتماسك الاجتماعي، ومرافقة لكل المناسبات الوطنية والأعراس والأفراح.
ولا ننسى في السياق كثير من الأغاني والأهازيج والرقصات الشعبية التي لكل منها سياقات وتركيبات ودلالات مختلفة، وكذلك ارتباطها بمنطقة جغرافية معينة، كالهوارة والشروقي ودبكات “السحجة والكرجة والسيوف” البعلبكية والدبكة الجنوبية…
يمثل التراث الغنائي اللبناني انعكاسًا حقيقياً للهوية الوطنية، كونه يشكل روح لبنان التي توحد أفراده وتحمل ذاكرة أجياله. ومما لاشك فيه أن فقدان هذا التراث يعني فقدان هوية لبنان الفريدة التي تستمد قوتها من تفاعلها مع البيئة المحلية وعاداتها، وهنا تبرز ضرورة ملحّة لتوعية الجيل الجديد لأهميته ولواجب المحافظة عليه، مما يوجب بذل كل الجهود المشتركة بين مؤسسات القطاع العام والخاص ووسائل الإعلام كافة لإحياء الألوان الفنية التي تعتبر جزءاً من هوية لبنان عبر الزمان.