بقلم الشيخ اياد عبدلله
قبل بلورة مفهوم الدولة في معاهدة وستفاليا عام 1648 لم تواجه الشعوب ازمات كبيرة وصلت الى حد الصدام بين مفاهيم شكلت في مراحل تاريخية معينة أشكاليات في الولاءات والانتماءات.
ومع تطور مفهوم الدولة عبر التاريخ وبداية انحسار دور السلطات الدينية واجه مفهوم المواطنة إشكاليات كبرى أدت في بعض الأحيان إلى صدامات دموية بفعل الافكار الثورية التي حملتها الثورة الصناعية التي نجحت الى حد بعيد في التخلص من تعدد الولاءات ومنها الولاء الديني.
والحقيقة ان هذه الاشكاليات بقيت متأزمة تتفاقم حينا وتخبو احيانا بحيث إن أحدا لم يتصد لحلها بطرق علمية حاسمة على الرغم من بعض المحاولات ولكنها اليوم وفي ظل العولمة الرقمية تتطلب جهودا كبرى لكي لا تتأثر الأجيال الصاعدة بمزيد من الشرذمة في الولاءات والانتماءات التي ستؤدي في حال تفاقمها الى تفكك المجتمعات التي اصبحت في معظمها تبحث عن هويات افتراضية.
وامام كل ازمة من هذا النوع، تعمد السلطات المختلفة أسياسية كانت ام دينية ام اقتصادية ام اجتماعية ، الى الهروب الى الامام عبر تسليط الضوء عن قصد الى قضايا مجتمعية مأزومة بهدف تغطية فشلها المتمادي في مواجهة الحقائق .
حدث ذلك مرارا في التاريخ، فحين تفشل السلطة السياسية في تحصين الوطن يتراجع الانتماء الوطني لمصلحة انتماءات تتدرج من الدين والطائفة و المذهب إلى العرق وصولا الى القبلية والعائلية . وعندما يتفاقم الخلل في المفاهيم الدينية التي وصل بعضها زورا الى حد القداسة تتزعزع القيم المفترض اعتمادها في التعليم الديني.
نحن لم نعد نشهد في هذه المرحلة جهوداً جدية لمعالجة الاشكاليات التي لم يعد المجال الرقمي يسمح بإخفائها بين مقتضيات المواطنة التي تتطلب انتماءات وولاءات مرتبطة بالوطن الجامع والحامي لكل مكوناته وبين المفاهيم الحقيقية للايمان الديني الذي يجب ان يثبت في نفوس المواطنين مقاصد الدين الحقيقية. وكل ازمة في هذا الاطار هي ازمة في الوطنية بحد ذاتها او في المفاهيم الدينية الخاطئة التي شوهت الى حد كبيرالدراسات والتعليم الديني…
انا لا انكر ان التطابق بين الانتمائين الوطني و الديني قد يصاب بالخلل خاصة في زمن الدولة المدنية او الدولة العلمانية التي تغلبت في المراحل الماضية لان الولاء يكون للوطن و القانون و الدستور فإذا حصل خلاف بين هذه القوانين الدينية و القوانين الوضعية و هذا طبعا امر وارد فإن الغلبة ستكون للقوانين الدينية، فاباحة العلاقات المثلية مرفوضة في الشرائع السماوية و منها الاسلام، لان هذه الإباحة منافية بشكل واضح للفطرة البشرية و القيم الإنسانية و قد عرفنا ما حصل لسدوم من غضب إلهي من خلال الكتب المقدسة، من هنا فإن اباحة مثل هذه المحرمات ستضع الإنسان المؤمن في حالة مواجهة مع الدولة، نقطة ثانية من الممكن أن نتكلم عنها و هي الإجهاض المرفوض في كافة الديانات، فعندما تقول الدولة ان من حق المراة ان تتصرف بجسدها فإن الدين سيأتي ليقول “لا” يحق للمرأة أن تفعل ذلك لأنها تقتل إنسانا آخر خلقه الله في جوفها، و في مثل هذه الحالات سنجد الصراع محتدماً بين القناعات الدينية الايمانية وبين القوانين الوضعية ما يخلق حالة من عدم الولاء للوطن، كذلك في باب المخدرات فإن الدين يريد للإنسان ان يبقى عاقلاً واعياً محيطاً بما يحيط به، لذلك لن يرضى الدين ان تبيح الدولة المخدرات التي توصل الإنسان إلى حالة الاعقل و اللاوعي، فإذا قام الداعمون للجماعات المروجة للمخدرات و للجماعات التي تبني ثرواتها على حساب صحة البشر و صحة المجتمع و صحة العقل البشري فإن الجماعات المؤمنة و المتدينة ستمارس حقها في الدفاع من نفسها و عن قيمها، هنا ملاحظة مهمة حتى في أوروبا نجد ان الايطاليين قاتلوا في مواجهة القوانين التي تحمي أصحاب العلاقات السدومية، كذلك الأمر نجد ان تجريم متعاطي المخدرات لا يزال موجودا في الدول المتقدمة، اذن اذا لم تحترم الدولة قناعات البشر و إيمانهم فإننا سنكون فوق أنفاق و بقع سوداء و فجوات سوداء ما سيؤدي إلى وجود مجتمعات معزولة عن بقية المجتمع و بعيدة الولاء للدولة.
وهنا لا بد أن نؤكد ان الانسان في الغالب متدين، و قليلون هم غير المتدينين، لذلك اذا لم تحترم الدولة الناس في إيمانهم فإن الولاء في ساعات الحسم و الامتحان لن يكون موجودا كما حصل في أفغانستان في مواجهة طالبان و هذا ما حصل مع المتدينين الألمان عندما نهض الحزب النازي لمحاربة بعض المخالفات التي تعتبر محرمة في البروتستانتية، اذا، الصراع بين الولاء للوطن و الولاء للدين لن ينتهي بانتهاء الاديان و إنما سينتهي باحترام الدولة لقناعات الشعوب و إيمان الناس و هنا دعوة ملحة إلى القوى المتحكمة ان يتواضعوا قليلا و يتخلوا عن كبريائهم و يفكروا بشكل جيد في الهدف الأساسي الذي قامت عليه العلمانية و هو مشاركة الشعب في القرارات الوطنية و التشريعية و التفكير في كيفية التعاطي الايجابي مع الاديان لا محاربة الاديان….